"جحيم الكائنات الحية ليس شيئاً سيأتي. هناك جحيم موجود أصلاً وهو الذي نسكن فيه كل يوم. وثمة وسيلتان لتجنب ألمه. الأولى تنجح بسهولة وتناسب الأغلبية من الناس: قبول الجحيم، وأن تصبح جزءاً منه إلى درجة أنك لا تعود تراه. أما الثانية ففيها مخاطرة وتتطلب انتباهاً وتعلماً دائمين: البحث والتعرف على منْ وماذا، وسط الجحيم، ليس جحيماً، والعمل للإبقاء عليه ولمنحه مكاناً(1).
لطالما حلمت أن أجد معادلاً لمدينتي طرابلس (اللبنانية) داخل نماذج إيتالو كالفينو الخمس وخمسين. قرأت "المدن غير المرئية" في كل الاتجاهات، بدءاً من أكثرها تفاؤلاً حتى تلك الغارقة في الدمار والموت، وبالعكس. أخذتني لعبتي في حبائلها، فرحت أخشى أن تقع مدينتي، أو تلك التي تشبهها، في آخر الفصول، السوداوية. بل تمنيت لو تعرف كالفينو على طرابلس فتلهمه ويضيفها إلى سجل مدنه كيفما شاء. ذلك أن المدينة إشكالية بحق، يتناقض ظاهرها وباطنها فتبدو كمدينتين تفصلهما مرآة صماء، من تلك التي لا تعكس الاشياء بل تبتلعها، كما في "أليس في بلاد العجائب". أهي مثل المدن المزدوجة في ذلك السرد، واحدة تجمع الأحياء والأموات، وأخرى الماء والأرض، وثالثة الجرذ والسنونوات؟ وعلى كل حال، فقد رأيت أن طرابلس نموذج لما سعى كالفينو إلى رسمه، من أن المدينة رمز للعلاقات الإنسانية، واعتقدت أن الاستنطاق النقدي للمجتمع الذي طالما التزم به الأديب، قد يفصح هنا عما هو مثير. وانحزت في كثير من الأحيان إلى مواقف الامبرطور قولباي خان مِنْ تعلق بـ "المشروع"، مِنْ "فهم الحاضر وتوجيه المستقبل"، وفي مرات أخرى اضطررت للموافقة مع ماركو بولو على "أن المدن السعيدة تستمر عبر السنوات والتغييرات في إعطاء شكلها للرغبات".
طرابلس ليست سعيدة. يقول الكثير من ابنائها أنها مدينة تزوي، ويصل الأمر ببعض متطرفيهم إلى الكلام عن اندثارها، البطيء، كما هو كل اندثار لا يعود إلى كارثة ماحقة من كوارث الطبيعة: ألا تندثر المدن حين تكف الحاجة بها، فتصبح رويداً مكاناً ثانوياً للسكن فحسب، بحكم الاستمرار وغياب فرص أخرى، ثم قد تُهجر وتموت، ولا يبقى منها إلا الأطلال. هنا كانت تدمر فأصبحت تزار كآثار. هنا كانت الكوفة عظيمة وقد غدت اليوم مدينة صغيرة كسائر المدن. يحدث ذلك أحياناً لأن طرق التجارة والحج لممالك وإمبراطوريات تتغير. ويحدث لألف سبب وسبب آخر مما لا يُحتسب إلا بعد وقوعه بزمن طويل.
طرابلس مدينة للسكن، يسعى أهلها للبقاء على قيد الحياة، بلا أحلام جميلة ولا خيال جامح، بلا تخطيط للمستقبل.(2) ويغادرها من يمكنه ذلك للعمل في بيروت (أو في الخليج)، أو يهاجر إلى أستراليا، محتفظاً بمنزل فيها، ويقصد من يمكنه ذلك بيروت للنزهة أو للتبضع، بينما توفر البترون وجبيل ما يلزم لمحبي السهر والمطاعم... لما لا؟ ولكن حينذاك تتفوق عليها مهاجع السكن، تلك المدن/المعسكرات المبنية على عجل لتوفير المنامة لجحافل تعمل في أنحاء قريبة. بلا ادعاء، ولا أثقال ماض مجيد. بوظيفية فعلية، وليس كـ"مدينة".
طرابلس ليست سعيدة. واحدة من تعريفات الهامشية هي "عدم التأقلم". والتأقلم ـ أو عدمه ـ يتضمن فكرة المبادرة،/الإرادة، هذا الشيء الذي يقع في الوسط بين البنية والدينامية، فيجمعهما ويوفر تفاعلهما. تتكلم التعريفات أيضاً عن الهامش الذي يقع الى جانب النص. فكرة "الجانب" أعجبتني، فعكسه هو "المركزية". وفي الغالب يبتلع النص الهوامش ويجعلها جزءاً من متنه.
مدينة مختنقة
هناك أسباب عديدة لا تتيح لطرابلس أن "تُبتلع" لتصبح جزءاً من المركز، منها بُعدها عن بيروت (جغرافياً، وبالقياس إلى الحجم الصغير للبنان)، ووجود انقطاع (هل يمكن نعته بالسوسيولوجي؟) بينهما يتمثل بكل ثقل منطقة جبل لبنان المسيحية. وطرابلس هي المدينة الوحيدة من لبنان التي فصلتها تماماً الحرب الاهلية الأخيرة ـ وإن بتقطع ـ عن بيروت، فعاشت سنوات ملتفة على ذاتها. وفي الواقع، فطرابلس مدينة مختنقة، إذ يضاف إلى بعدها عن بيروت افتقادها لما كان على مدى التاريخ ميزتها الجغرافية/الاستراتيجية الكبرى: هي منفذ سوريا الوسطى والعراق وبلاد فارس على المتوسط. فمن تلك الفجوة السهلية بين سلسلتي جبال لبنان وجبال العلويين، مرت في الزمان، ومنذ الفينيقيين ثم الرومان والصليبيين وجحافل صلاح الدين ومن بعده قلاوون والمماليك والعثمانيين...القوافل والغزوات، وصولاً إلى خط السكك الحديد الذي ربطها منذ بدايات القرن العشرين بحمص وجعلها جزء محتمل، أو مفترض، من مشروع قطار الشرق السريع، ثم تمديد خط نفط كركوك، الذي تبقَّى منه موقع تكرير شركة نفط العراق "أي بي سي" على البحر في الطرف الشمالي للمدينة. توقف تدفق النفط وتكريره وتوزيعه وتسفيره، ولم يستعد أبداً. ولم تعد طرابلس مصباً نفطياً. كما اضمحل مرفأ المدينة الذي كان حتى بداية الحرب العالمية الثانية في القرن الماضي ينافس مرفأ بيروت في نشاطه المتنوع، من تصدير الحمضيات التي تشتهر بها الفيحاء لخصوبة السهول المحيطة بها، (فأعطت لليمون الحامض اسم "المَراكبي" لتحميله على المراكب تسفِّره عبر البحر)، إلى الزيت والزيتون اللذان تشتهر بهما هضابها، إلى الحرير والقطن، وقد كان في المدينة في القرن الثاني عشر أربعة آلاف نول، وما زالت حية، مسكونة ومستخدمة، الاسواق التي تحمل اسم الحرف في المدينة القديمة وتشهد على ازدهار سالف: سوق الصاغة والنحاسين والدباغة وخانات الخياطين والصابون والبازركان إلخ.
وللتاريخ أثره، وقد يكون أحياناً سلبي معيق. فطرابلس لا تكف عن تذكر أنها كانت أكبر موانئ سوريا في عهد المماليك، وهي تتذكر أيضاً انها، بعدما ألحقها السلطان سليم الأول بولاية دمشق، أصبحت هي نفسها مركز ولاية. ولعل حي باب التبانة يلخص مسار المدينة الانحداري. وهو مدخل طرابلس الشمالي الذي كان حتى عقود قليلة يسمى "باب الذهب" لنشاطه ومردوديته الاقتصادية العالية، وكان يحتوي على أسواق الجملة الغذائية التي تفد بضائعها إليه من الأرياف المحيطة ومن سوريا، ويشتغل فيه الألوف من أبناء المدينة ويجد العمال الوافدون إليه عملاً. وقد تحول إلى رمز للبؤس، إلى أفقر مناطق لبنان بحسب تقارير بعثات التنمية الدولية، يفتقد إلى مقومات السكن اللائق وإن بحدوده الأكثر تدنياً، وإلى البنى التحتية كلها، تنتشر فيه أكوام الزبالة والماء الآسن وتسرح في مداخل بناياته الجرذان، وهذه يتداعى قديمها كما تلك المجمعات المتلاحقة التي بنيت على عجل لاستيعاب وفود ابناء الأرياف وسوريا إليه أيام العز. تسود البطالة بين شبابه، ويشتغل الأطفال في أعمال مرهقة أو يحتلون الأزقة بعيداً عن المدارس التي لم يرتادوها أبداً أو تسربوا منها سريعاً.(3) وترافق هذه الصورة المعطيات المألوفة من مخدرات بكل أنواعها تساعد على "الاّ تعود ترى الجحيم"، ومن أشغال شتى لا داعي لتسميتها، ومن استئجار المجموعات والأفراد منخفض الكلفة في أعمال الاستزلام، أو جنوحهم لإعطاء حياتهم معنى بالالتحاق بحركات تفسر لهم جاهلية واقعهم وتعدهم بثواب الجنة. من يمكنه القاء الملامة؟ وحين ظهر شاب(4) من ذلك الحي وسعى لمنحه قواماً، ملتقطاً "من وماذا، وسط الجحيم، ليس جحيماً"، بدا غريباً لا يُصدق، وسرعان ما أغتيل كما أغتيل قبله شقيقه الأوسط، ثم أغتيل بعده شقيقه الأكبر. باب التبانة أكثر أحياء طرابلس اكتظاظاً، ولعل تعداد سكانه يوازي ثلث مجمل تعداد سكان المدينة، كثيرون منهم ليسوا طرابلسيين أصيلين، كما يقول بتأفف أبناء عائلات المدينة، رغم علمهم أن ذلك لا يغير من الواقع شيئاً، وأنهم هنا منذ الآباء والاجداد.
انقطع الداخل العربي عن لبنان، أو لم يعد ذي بال. حلت العلاقة مع الخليج محله، ولتلك طرق مرور وقواعد لا دخل لها بما سبقها. ابتعدت طرابلس عن محيطها الطبيعي والتاريخي بفعل التوترات السياسية المتكررة مع سوريا خلال الحرب الأهلية اللبنانية، وانغلاق الحدود أحياناً (القريبة جدا:35 كلم) أو صعوبة اجتيازها لتعثر سيولة الانتقال والتعامل السالفان، وللتغيرات في البنى الاجتماعية والاقتصادية لسوريا هي نفسهاحيث لم تعد حمص ولا حماه مراكز تجارية هامة، ولاضطرابات الداخل العربي، وآخره حروب العراق والحصارات التي لحقت به، ثم احتلاله من الأمريكان. ولإدراك هول هذه الاحداث فلا بد من التذكير أن طرابلس كانت قد وقفت على الدوام ضد إنشاء الفرنسيين للبنان الكبير، وتداعى أهلها لإضراب استمر شهوراً رفضاً لتنظيم إحصاء السكان عام 1932، وهي مدينة عرَّفت نفسها على الدوام بأنها عروبية، ناصرية حين سطع نجم عبد الناصر، فيصعب الا تجد حينها في كل بيت صورة للرجل، بل حجَّت عائلات طرابلس، بما فيها نساؤها، إلى القاهرة وحالف الكثير منها الحظ في التقاط صورة مع القائد، وضعتها في إطار وصدَّرتها في غرف الاستقبال. وقاتلت طرابلس ضد حلف بغداد ومن أجل الوحدة بين سوريا ومصر. أحبت عبد الناصر وكرهت عبد الكريم قاسم كرمى لعيون الأول. كما كرهت حتى وقت قريب حركة الإخوان المسلمين للسبب نفسه. وكانت تتطير من كل صنوف الوهابيين لأنهم قاتلوا السلطنة العثمانية. فولاء طرابلس إلى محيطها راسخ، وفي استقراره يكمن أحد أسرار ما يشار إليه على أنه تقليديتها. ولكن ماذا يحل بهذا الولاء حين يتهتك المحيط ؟ ها طرابلس ترفع العلم التركي فوق بعض شرفاتها، بعدما لمع في أكثر من مناسبة نجم تركيا أردوغان. ويشبه ذلك نداء يائس لاستعادة الارتباط بمرجع ما.
...كانت طرابلس إذاً تحب وتكره بشكل متسق، مما اندثر اليوم. وهذا واحد من علامات المرض الذي يفتك بها. فمن خصائص المدن أن يسود فيها مزاج عام يطبعها. بما في ذلك دكوزموبوليتية بيروت التي يقال فيها أنها مدينة فوضوية، فيما كانت طرابلس تفتخر بأنها أكثر مدن لبنان عروبة وتقليدية كذلك، بمعنى الاصالة المستقرة.
وقد شاءت مصادفات الديموغرافيا أن يكون محيط المدينة، الشرقي والجنوبي، موطن سكن للمسيحيين، في قوس ملاصق للمدينة يبدأ من شكا على البحر، ويمر بالكورة ثم زغرتا. ولم تساعد وقائع الحرب الأهلية الأخيرة في الإبقاء على علاقات جيدة مع هذا المحيط، بل وحتى مع مسيحيي المدينة نفسها، وقد كانوا في وقت من الأوقات ليس ببعيد يمثلون ربع سكانها. وزاد الطين بلة الممارسات الفظة لحركة التوحيد الإسلامية، ووقوع تصفيات لمسيحيين بصفتهم تلك، وكذلك طغيان نفاق مسلكي إسلاموي عام ما زال رائجاً، وتأكيدات اقصائية من قبيل أنها "قلعة المسلمين" كما تقول يافطة مثبتة على مدخلها الرئيس، ومقولات حالية تافهة من نوع أنها "خزان السنة" في لبنان، وما يتبعها من مظاهر للبرهان على صحة المقولة. نجح كل ذلك في تنفير من تبقى من المسيحيين في المدينة، وإخافتهم، فغادرها قسم منهم، كما يتجنب أهالي المناطق المسيحية المحيطة التردد عليها، وقد طوروا مناطقهم لتلبية حاجاتهم، أو فضلوا التوجه مباشرة الى بيروت سالكين اوتوسترادات خارجية شُقت، تكفيهم شرَّ المرور بطرابلس. طرابلس ليست سعيدة، فهي مختنقة من كل جوانبها. وقد فقدت دورها الموضوعي بحكم سياقات لا دخل لإرادتها بها. ولكن ذلك وحده لا يفسر مرضها.
مدينة مهملة
عانت طرابلس، التي يفترض أنها عاصمة لبنان الثانية، إهمالاً مديداً من الدولة اللبنانية، ما زال سارياً. ومن تفسيراته أن الدولة في لبنان نشأت أصلاً نشأة مركزية شديدة، التعبير عنها في تضخم بيروت الهائل، بحيث كان نصف سكان لبنان يعيشون في العاصمة وضواحيها عشية اندلاع الحرب الأهلية عام 1975. ومن تفسيراته أن طرابلس ظلت لمدة طويلة غريبة عن مشروع لبنان ذاك، نابذة له وساعية للفكاك منه أو الحلم بذلك كلما لاح في الأفق ما يوحي بهذا الامكان. وحين تقرر تأسيس معرض طرابلس الدولي في منصف الستينات، وتكليف المعماري العالمي أوسكار نيميِّر(5) بتشييده. بدا ذلك كنوع من تحقيق المصالحة بين لبنان وطرابلس. ثم صدر في أوائل عهد الرئيس رفيق الحريري قانون ينص على حصر دولية المعارض بمعرض طرابلس، ولكنه ظل حبراً على ورق لأن معارض أخرى تطلق على نفسها صفة الدولية كانت في الوقت نفسه تنبت في بيروت. وأما الأكثر فداحة من كل هذا فهو أن معرض طرابلس لم يعمل أبداً، حتى كمعرض وطني، وأن مساحاته الشاسعة ومبانيه الجميلة معطلة تماماً، إلا في مناسبات عرضية وعابرة وثانوية. وهذا مثال معبر تماماً عن فكرة الإهمال المديد.
كما واجهت كل المحاولات (الخجولة أو المتقطعة) لتوسيع مرفأ طرابلس وتعميق حوضه مقاومة رسمية قاطعة. وهما، المعرض والمرفأ، المشروعان اللذان كان بإمكانهما إنعاش المدينة المفقرة بشدة اقتصادياً، وإعادة ربطها بالبلد، وتجديد تعريفات صلتها بمحيطها الإقليمي، علاوة على بعض عوائد العالمية. على أنه ثمة قطاع ثالث يمكنه هو الآخر أداء دور بهذا الصدد. فطرابلس ما زالت تحتفظ بمدينتها المملوكية الممتدة، تلك الأحياء القديمة التي ما زالت مسكونة ومشغولة من التجار، ومتصلة رغم شق بعض الطرق، وأكثرها تدميراً لنسيجها هو أوتوستراد النهر الذي شُق في زمن فؤاد شهاب بحجة فيضان نهر ابو علي عام 1956. ولكن أهل طرابلس مقتنعون بأنه قصد منه هتك قدرتها على العصيان بوجه السلطة، بالنظر إلى حرب 1958 الأهلية، التي احتلت طرابلس مكانة كبيرة فيها وفي مقارعة كميل شمعون ونواياه في الالتحاق بحلف بغداد. وتحوي المدينة القديمة آثاراً رائعة ونادرة وكثيرة، كما تنتصب وسطها قلعة سان جيل الصليبية الهائلة والتي يقال أن دهاليز غائرة في الأرض تربطها ببرج السباع، القلعة الصليبية الأخرى القريبة من البحر. ومن المفارقات أن تلك الثروة مهملة هي الأخرى، يحظى بعض أجزائها بترميمات سرعان ما يتبين سوء تنفيذها أو يبتلعها بؤس ما يحيط بها، وهو بؤس مكين لا يقوى على مقاومته النشاط المحدود جداً لخان الصابون أو الخياطين أو سوق الصاغة أو النحاسين أو الدباغين إلخ...
وطرابلس مدينة عثمانية أيضاً، تشهد على ذلك ساعتها ومباني ساحة التل رائعة الجمال. وهناك في هندسة المدينة علامات أو مواقع توضح حقبات ومراحل توسعها الذي يشبه الدوائر(6)، فتحتضن المدينة الجديدة تلك العثمانية التي تحتضن بدورها المدينة القروسطية المملوكية والصليبية، بينما اندثرت الآثار الفينيقية وكانت بكل الأحوال متركزة في القسم المعروف اليوم باسم الميناء. وحين يُدهش الزائر لجمال طرابلس، يظن السامعين من أبنائها أنه يجاملهم. فالأول لا يرى الإيقاع اليومي لحياة المدينة، وهو غاية في الرتابة والتبعثر في آن واحد، من دون أي استشراف جماعي للمستقبل أو حلم به. أما أبناء المدينة فقد كفوا منذ زمن طويل عن رؤية جمال مدينتهم، أو الانفعال به.
تريّف طرابلس؟
هل يمكن تفسير بعض علامات انهيار ما يسميه السوسيولوجيون "أخلاق المدينة" في طرابلس بطفرة وفود أعداد كبيرة من أهالي الأريافا لمسلمة السنيّة، الشمالية والشمالية الشرقية اليها في العقدين الماضيين، أي مناطق الضنية وعكار، وسكنهم فيها، وأغلبيتهم الساحقة فقراء. لقد تضاعفت عدة مرات في سنوات قليلة مساحة حي ابي سمراء مثلاً، ملتهمة بشكل عشوائي بساتين الزيتون التي يكاد لا يبقى منها أثر. ومثل ما لحق بهذا الحي العريق، نشأت في أكثر من ناحية أحياء جديدة كما ينبت الفطر. فهل الكثرة الشديدة والمفاجئة، غير القابلة للهضم، هي المشكلة، ولكنها في هذه الحالة آنية أو عابرة. أم تغلب صحة الإشارة إلى أن عجز المزاج والتقاليد والثقافة المدينية عن استيعاب وإعادة قولبة هؤلاء، تمدينهم كما يحدث عادة في سيرورات مشابهة، يعود إلى الأزمة العميقة التي كانت تعاني منها أصلاً طرابلس، كمدينة مختنقة وفاقدة لدورها، ومهملة إلى حد انها باتت تمتاز بأعلى معدلات الفقر في لبنان؟ يُشكى من أن السكان في طرابلس باتوا لا يحترمون أي قواعد مدينية في المسلك، وأبسطها مثالاً قواعد النظافة في الأماكن العامة، (فشوارع طرابلس بحالة من القذارة الشديدة) أو نظام المرور في المدن، أو احترام الهدوء، فتشهد طرابلس حركة سير هوجاء بحق، متفلتة من أي ضوابط ذاتية، ومن رقابة شرطة السير الذين بات أفرادها عملة نادرة في المدينة، يختفون تماماً وبشكل غامض في بعض الأيام، ويظهرون على بعض التقاطعات الرئيسية أحياناً فيبدون حينها مستقيلين من مهامهم، لا يتدخلون في ما يجري أمامهم، وكأنهم بلا سلطة.
ويبررون ذلك بكثرة تدخل الزعماء لمصلحة المخالفين، فلِما "يسوِّدون" هم وجوههم. أهي "مؤامرة" على المدينة من جهات لبنانية عليا ومركزية، كما يظن بعض أهلها، لدفعها نحو مزيد من التردي تحقيقاً لأغراض شتى، أم انها القاعدة المعروفة في حالات مشابهة تفعل فعلها هنا، إذ تحُول سوسيولوجيا السكن التي أصبحت ريفية داخل المدينة، وفقدت إتساق كل من نظامي القيم الريفي والمديني على السواء، دون القدرة على إدارة حالة كهذه فتُترك بلا إدارة. بمعنى أن الافتقاد لحقل مرجعي من جهة، وسيادة نظام تدبر الحال لدى تلك الجموع الفقيرة والمتبطلة من جهة أخرى، يجعلان كل شيء مقبولاً، بغض النظر عن المقاييس الاجتماعية والقانون. سيما حين لا تتحول المدينة إلى مشروع مشترك للعيش، فتتضخم في هذه الحالة كل مؤشرات الهامشية، ويصبح الافتقاد إلى الانسجام المكاني والاجتماعي تاماً.
نقاط عالقة
ـ مضى على طرابلس عقود بلا دور للسينما. وهي ما زالت مستغنية عن هذه العادة، بينما كانت تحوي عدة "أندية سينما" في ستينات القرن الفائت تشتغل أسبوعياً في عدة دور للسينما عامرة تماماً. وظلت لعقود بلا مقاهي، إذ اندثر قديمها ولم يكن جديدها قد ظهر بعد. وقد انتشرت في السنوات القليلة الماضية المقاهي في شوارع شُقت حديثاً داخل ما كان بساتين ليمون وبرتقال أفِلت لطغيان المضاربة العقارية، أحد أهم حقول اشتغال المال المجني خارج لبنان، وأحد أهم وسائل الإدخار في البلد عموماً. وما زالت تلك الطرق بلا سكن أو يكاد، ما يجعل هذه المقاهي الجديدة خارج كل نسيج اجتماعي حاضن. وهي قد ظهرت بطابع غريب، يخلط في آن بين مقاهي الطرق السريعة في الولايات المتحدة صاحبة الهياكل مسبقة الصنع، فتبدو مزروعة في المكان بشكل مؤقت، وبين البهرجة "الخليجية" في الديكور والموسيقى الخ. فما معنى كل ذلك، وما أثره في آن؟
ـ تقول جين جاكوبز(7) أن المدن أقدم من الاوطان وأكثر منها رسوخاً، فـ"مرسيليا أقدم من فرنسا"، (وأضيف أن طرابلس أقدم من لبنان!). وهي تقول أن تلك (وتقصد الدولة /الأمة) عابرة بالمقارنة مع المدن.ولكنها تقول أيضاً أنه لا يمكن توقع مصائر هذه الأخيرة، ولا مقدار الأهمية أو الثانوية التي ستتخذها مع الزمن. وهي عملت على تعيين "الشارع" كمكان للحياة ولنسج العلاقات المدينية وكذلك الإنسانية. بل اشتغلت من منظور عمراني على تشجيع التدابير المفضية إلى تعزيز هذه الوظيفة أو حتى استحضارها. بينما يزداد استخدام أهل طرابلس للشارع كمكان للمرور فحسب. وفي هذا الاستخدام غلظة بل عنف، يتمثل بنزق السائقين المجاني، وتنافسهم على العبور بلا اعتبار للمارة ولا لسواهم من السيارات. ثمة في ذلك غربة عن المكان، أو نفي له وتجاهل. افتقد مشهداً مألوفاً في طفولتي وشبابي، هو النزهة على الأقدام في شوارع طرابلس. وكان أبي برفقة اصدقائه يقطع سيراً الشارع الطويل الممتد من بيته إلى مقهاه، فتكون تلك مناسبة يومية، أو تكاد، لمصادفة أقرانهم. ليست الملاحظة نوستالجيا استعادية لعادات مضت، بل قياس لمدى التفكك الذي يصيب المدينة، منظوراً إليه انطلاقاً من نقاط أثارتها جاكوبز وتخص مدناً كبيرة في الولايات المتحدة وكندا. هذا مع الانتباه إلى حفظ الفوارق وعدم الجنوح إلى ليّ الامثلة غير المتطابقة بغاية تطويعها.
ـ صنفت بعض الدول الغربية (8) طرابلس منطقة خطر تنصح رعاياها بتجنب السفر إليها، كما تمنع موظفيها الرسميين من التردد عليها، مما يضيف الإقصاء إلى عزلتها متعددة الأوجه. ولئن وجدت بعض مظاهر وتحركات لمجموعات سلفية في المدينة أو جوارها، فذلك، وفق أي تقديرات جادة، بعيد عن تشكيل أي خطر، بدليل عدم وقوع حوادث تطال الاجانب في المدينة، وبعضهم يأتي للتفرج على معالمها. ولكنه نوع من رعاية الرهاب، تدفع المدينة ثمن أمزجة أصحابه وأوهامهم.
ـ هل يضيف إلى مشكلات طرابلس وجود حي يسكنه العلويون في المشارف الشمالية للمدينة، على تلة تطل على باب التبانة، ووجود كتلة علوية أخرى في العديد من قرى سهل عكار الذي يفصل المدينة عن الحدود السورية؟ جرى في العقود الماضية التركيز على الاشتباكات المسلحة بين الحيين، والذي يجد أساسه في التوتر السياسي مع النظام السوري وذلك على المستوى الوطني وليس الطرابلسي. وبكل الاحوال، فقد أصبحت تلك الحال مصدر توظيف متنوع، بالمعنيين الرمزي والمادي. وهي شكل من المجابهة مع سوريا بالوكالة. وهنا نعيد التذكير بأن سوريا تلك هي تقليدياً وتاريخياً عمق طرابلس والأفق الذي طالما ارتجت ازدهارها من العلاقة به. واستقرار خلاف ذلك يؤشر إلى مأزق موضوعي لطرابلس.
ـ ثمة أمر يلح ويتعلق بدراسة فعل النخب المحلية في مواجهة طرابلس لمصيرها المهمش، أو ذاك الذي يضمر احتضارها/اندثارها، وسؤال تلك النخب عن مخططاتها العلاجية. بل وقبلهما تفحص حصتها من المسئولية عن وصول المدينة إلى حالها هذا. والملاحظة التي تحتاج إلى تعميق تتعلق باشتراك تلك النخب المنتمية إلى ميادين شتى، على رأسها تلك السياسية، في خاصية ضعف المبادرة عموماً، وفي الاكتفاء بإدارة الآني من الأمور من جهة، باقتصاد، أي بالحد الاكثر اختصاراً وتدنياً. بينما لا تقوم المدينة، ولا تُحمى في سياق حياتها إلا بافتكار مجالها بشكل عمومي وشامل.
ـ وهكذا يبقى سؤال البداية كاملاً، استخلاصياً: مَنْ يقوى على الحلم؟
هوامش:
[1] ايتالوكالفينو "المدن غير المرئية" ص 189 من الطبعة الفرنسية منشورات دار سوي 2002.
[2] صنفت وكالة الامم المتحدة للتنمية طرابلس كـ"أسؤ مدينة حالاً على المتوسط"! وقدرت من هم من سكانها تحت خط الفقر بـ 58 بالمائة.
[3] "تقدر وكالات الأمم المتحد ة المختصة أن هناك ما نسبته 57 بالمئة من الفئة العمرية التي تتراوح بين 14و 19 عاماً هي خارج أي تعليم تربوي أو مهني أو أكاديمي(...)وتصنف طرابلس ضمن المدن الشابة، حيث إن أكثر من 60 بالمئة من أبنائها هم تحت سن
الـ 24 سنة (...)ما يعني أن نصف سكان المدينة سيكونون أميين بعد عقد أو عقدين من الزمن".غسان ريفي، جريدة السفير اللبنانية عدد 6 كانون الثاني/يناير 2012.
[4] اتكلم عن خليل عكاوي الذي اغتيل عام 1986، وكان قد أنشأ "لجان المساجد والأحياء" وسعى لتنظيم هذه الكتلة البشرية الفقيرة لكي تمتلك مكاناً فاعلاً على المسرح السياسي وتقرر لنفسها مصيرها. وقبله أخوه علي الذي مات بصورة غامضة في سجن لبناني قبيل الحرب الأهلية وكان الإثنان يمثلان بحق استعادة فعالة لأسطورة روبن هود. وقد تعلق بهما أهل ذلك الحي تعلق لا شبيه له. وبعدهما قتل درويش المسالم والبعيد عن السياسة في رد فعل انتقامي تحول إلى مجزرة جماعية على يد القوات السورية في رأس سنة عام 1987
[5] وهو باني مدينة برازيليا من العدم. وفي مباني معرض طرابلس أشكال يتفرد بها وسبق له استخدامها في مشروعه العمراني الهائل ذاك، كالقبة المنغرسة في الارض، وهي نسخة طبق الاصل عن مبنى برلمان برازيليا، وكطغيان الاسمنت المسلح، وككثير من الاقواس. وفي نبأ تناقلته الصحف منذ عامين، أن نيميّر غضب لمصير معرض طرابلس وأبنيته المهملة، فطالب بهدمها! وعلى كل حال، فهو لا يلحظها في ثبت أعماله.
[6] وهو وصف استخدمته بعثة اليونيسكو التي جاءت بمهمة استطلاعية الى طرابلس عام 1953، وكانت برئاسة البروفسور السويسري بول كولار، انظر تقريرها بعنوان: Liban, aménagement de la ville de Tripoli et du site de Baalbek. Mission Unesco, 1953, chef de mission Paul Collart.
[7] وهي من ابرز فلاسفة العمران وقد كرست حياتها وكتاباتها للاشتغال على المدينة، وكانت افكارها ذات اثر سوسيولوجي وليس بنائي فحسب على تنظيم عدة مدن في أمريكا الشمالية، وقد اهتمت بمواضيع الغيتو، ووظيفة الشارع كحيز عام للحياة، واعادة السكن إلى قلب المدينة أو ما يقال له الـ"دونْتاون".
[8] انظر موقع وزارة الخارجية الفرنسية على سبيل المثال.